الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
أي لأول سهم زمان ملاقاته، وابن مالك كما قال السفاقسي يقدر في الآية والبيت حرف الجر أي بأن يصدقوا وبأن يلاقي، وقرأ أبي إلا أن يتصدقوا.{فَإن كَانَ} أي المقتول خطأ {مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ} أي كفار يناصبونكم الحرب {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ولم يعلم به القاتل لكونه بين أظهر قومه بأن أتاهم بعد أن أسلم لمهم، أو بأن أسلم فيما بينهم ولم يفارقهم، والآية نزلت كما قال ابن جبير في مرداس بن عمرو لما قتله خطأ أسامة بن زيد {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} أي فعلى قاتله الكفارة دون الدية إذ وراثة بينه وبين أهله {وَإِن كَانَ} أي المقتول المؤمن ما روي عن جابر بن زيد {مِن قَوْمٍ} كفار {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثاق} أي عهد مؤقت أو مؤبد {فِدْيَةٌ} أي فعلى قاتله دية {مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ} من أهل الإسلام إن وجدوا، ولا تدفع إلى ذوي قرابته من الكفار وإن كانوا معاهدين إذ لا يرث الكافر المسلم، ولعل تقديم هذا الحكم كما قيل مع تأخير نظيره فيما سلف للإشعار بالمسارعة إلى تسليم الدية تحاشيًا عن توهم نقض الميثاق {وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً} كما هو حكم سائر المسلمين، ولعل إفراده بالذكر ما قيل أيضًا مع اندراجه في حكم ما سبق في قوله سبحانه: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا} إلخ لبيان أن كونه فيما بين المعاهدين لا يمنع وجوب الدية كما منعه كونه بين المحاربين. وقيل: المراد بالمقتول هنا أحد أولئك القوم المعاهدين فيلزم قاتله تحرير الرقبة، وأداء الدية إلى أهله المشركين للعهد الذي بيننا وبينهم، وروي ذلك عن ابن عباس والشعبي وأبي مالك، واستدل بها على أن دية المسلم والذمي سواء لأنه تعالى ذكر في كل الكفارة والدية فيجب أن تكون ديتهما سواءًا كما أن الكفارة عنهما سواء. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال: بلغنا أن دية المعاهد كانت كدية المسلم ثم نقصت بعد في آخر الزمان فجعلت مثل نصف دية المسلم؛ وأخرج أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن دية أهل الكتاب كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم النصف من دية المسلمين وبذلك أخذ مالك.وعن الشافعي رضي الله تعالى عنه دية اليهودي والنصراني نصف دية المسلم ودية المجوسي ثلثا عشرها، وزعم بعضهم وجوب الدية أيضًا فيما إذا كان المقتول من قوم عدو لنا وهو مؤمن لعموم الآية الأولى، وأن السكوت عن الدية في آيته لا ينفيها، وإنما سكت عنها لأنه لا يجب فيه دية تسلم إلى أهله لأنهم كفار بل تكون لبيت المال، فأراد أن يبين بالسكوت أن أهله لا يستحقون شيئًا، وقال آخرون إن الدية تجب في المؤمن إذا كان من قوم معاهدين، وتدفع إلى أهله الكفار وهم أحق بديته لعهدهم، ولعل هؤلاء لا يعدون ذلك إرثًا إذ لا يرث الكافر ولو معاهدًا المسلم كما برهن عليه.{الهدى فَمَن لَّمْ يَجِدْ} رقبة يحررها بأن لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها من الثمن {فَصِيَامُ} أي فعليه صيام {شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} قال مجاهد: لا يفطر فيهما ولا يقطع صيامهما، فإن فعل من غير مرض ولا عذر استقبل صيامهما جميعًا، فإن عرض له مرض أو عذر صام ما بقي منهما، فإن مات ولم يصم أطعم عنه ستين مسكينًا لكل مسكين مدّ، رواه ابن أبي حاتم. وأخرج عنه أيضًا أنه قال: فمن لم يجد دية أو عتاقة فعليه الصوم، وبه أخذ من قال: إن الصوم لفاقد الدية والرقبة يجزيه عنهما، والاقتصار على تقدير الرقبة مفعولًا هو المروي عن الجمهور وأخرج ابن جرير عن الضحاك أنه قال: الصيام لمن لم يجد رقبة، وأما الدية فواجبة لا يبطلها شيء، ثم قال وهو الصواب لأن الدية في الخطأ على العاقلة والكفارة على القاتل، فلا يجزئ صوم صائم عما لزم غيره في ماله، واستدل بالآية من قال: إنه لا إطعام في هذه الكفارة، ومن قال: ينتقل إليه عند العجز عن الصوم قاسه على الظهار وهو أحد قولين للشافعي رحمه الله تعالى، وبذكر الكفارة في الخطأ دون العمد، من قال: أن لا كفارة في العمد، والشافعي يقول: هو أولى بها من الخطأ {تَوْبَةً} نصب على أنه مفعول له أي شرع لكم ذلك توبة أي قبولًا لها من تاب الله تعالى عليه إذا قبل توبته، وفيه إشارة إلى التقصير بترك الاحتياط. وقيل: التوبة هنا عنى التخفيف أي شرع لكم هذا تخفيفًا عليكم، وقيل: إنه منصوب على الحالية من الضمير المجرور في عليه بحذف المضاف أي فعليه صيام شهرين حال كونه ذا توبة، وقيل: على المصدرية أي تاب عليكم توبة، وقوله سبحانه: {مِنَ الله} متعلق حذوف وقع صفة للنكرة أي توبة كائنة من الله تعالى. {وَكَانَ الله عَلِيمًا} بجميع الأشياء التي من جملتها حال هذا القاتل {حَكِيمًا} في كل ما شرع وقضى من الأحكام التي من جملتها ما شرع وقضى في شأنه.
فنزلت هذه الآية مشتملة على إبراق وإرعاد وتهديد وإبعاد، وقد تأيدت بغير ما خبر ورد عن سيد البشر صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج أحمد والنسائي عن معاوية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل ذنب عسى الله تعالى أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا، وأخرج ابن المنذر عن أبي الدرداء مثله، وأخرج ابن عدي والبيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أعان على دم امرئ مسلم بشطر كلمة كتب بين عينيه يوم القيامة آيس من رحمة الله تعالى»، وأخرجا عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لزوال الدنيا وما فيها أهون عند الله تعالى من قتل مؤمن ولو أن أهل سماواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم الله تعالى النار»، وفي رواية الأصبهاني عن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام قال: «لو أن الثقلين اجتمعوا على قتل مؤمن لأكبهم الله تعالى على مناخرهم في النار، وإن الله تعالى حرم الجنة على القاتل والآمر»، واستدل بذلك ونحوه من القوارع المعتزلة على خلود من قتل مؤمنًا متعمدًا في النار، وأجاب بعض المحققين بأن ذلك خارج مخرج التغليظ في الزجر لاسيما الآية لاقتضاء النظم له فيها كقوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ} [آل عمران: 97] في آية الحج، وقول صلى الله عليه وسلم للمقداد بن الأسود كما في الصحيحين حين سأله عن قتل من أسلم من الكفار بعد أن قطع يده في الحرب «لا تقتله فإن قتلته فإنه نزلتك قبل أن تقتله وإنك نزلته قبل أن يقول الكلمة التي قال»، وعلى ذلك يحمل ما أخرجه عبد بن حميد عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نازلت ربي في قاتل المؤمن أن يجعل له توبة فأبى عليَّ» وما أخرجه عن سعيد بن عينا أنه قال: كنت جالسًا بجنب أبي هريرة رضي الله تعالى عنه إذ أتاه رجل فسأله عن قاتل المؤمن هل له من توبة؟ فقال: لا والذي لا إله إلا هو لا يدخل الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط.وشاع القول بنفي التوبة عن ابن عباس، وأخرجه غير واحد عنه وهو محمول على ما ذكرنا، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن حميد والنحاس عن سعيد بن عبيدة أن ابن عباس كان يقول: لمن قتل مؤمنًا توبة فجاءه رجل فسأله ألمن قتل مؤمنًا توبة؟ قال: لا إلا النار فلما قام الرجل قال له جلساؤه: ما كنت هكذا تفتينا كنت تفتينا أن لمن قتل مؤمنًا توبة مقبولة فما شأن هذا اليوم؟ا قال: إني أظنه رجلًا مغضبًا يريد أن يقتل مؤمنًا فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك، وكان هذا أيضًا شأن غيره من الأكابر فقد قال سفيان: كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا: لا توبة له فإذا ابتلى رجل قالوا له: تب، وأجاب آخرون بأن المراد من الخلود في الآية المكث الطويل لا الدوام لتظاهر النصوص الناطقة بأن عصاة المؤمنين لا يدوم عذابهم، وأخرج ابن المنذر عن عون بن عبد الله أنه قال: فجزاؤه جهنم إن هو جازاه، وروي مثله بسند ضعيف عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قيل: وهذا كما يقول الإنسان لمن يزجره عن أمر: إن فعلته فجزاؤك القتل والضرب، ثم إن لم يجازه لم يكن ذلك منه كذبًا، والأصل في هذا على ما قال الواحدي: إن الله عز وجل يجوز أن يخلف الوعيد وإن امتنع أن يخلف الوعد، وبهذا وردت السنة ففي حديث أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من وعده الله تعالى على عمله ثوابًا فهو منجزه له، ومن أوعده على عمله عقابًا فهو بالخيار» «ومن أدعية الأئمة الصادقين رضي الله تعالى عنهم: يا من إذا وعد وفا، وإذا توعد عفا»، وقد افتخرت العرب بخلف الوعيد، ولم تعده نقصًا كما يدل عليه قوله: واعترض بأن الوعيد قسم من أقسام الخبر، وإذا جاز الخلف فيه وهو كذب لإظهار الكرم، فلم لا يجوز في القصص والأخبار لغرض من الأغراض، وفتح ذلك الباب يفضي إلى الطعن في الشرائع كلها.والقائلون بالعفو عن بعض المتوعدين منهم من زعم أن آيات الوعيد إنشاء، ومنهم من قال: إنها أخبار إلا أن هناك شرطًا محذوفًا للترهيب فلا خلف بالعفو فيها، وقال شيخ الإسلام: والتحقيق أنه لا ضرورة إلى تفريع ما نحن فيه على الأصل لأنه إخبار منه تعالى بأن جزاءه ذلك لا بأنه يجزيه بذلك كيف لا وقد قال عز وجل: {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40] ولو كان هذا إخبارًا بأنه سبحانه يجزي كل سيئة ثلها لعارضه قوله جل شأنه: {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30] وهذا مأخوذ من كلام أبي صالح وبكر بن عبد الله، واعترضه أبو علي الجبائي بأن ما لا يفعل لا يسمى جزاءًا ألا ترى أن الأجير إذا استحق الأجرة فالدراهم التي عند مستأجره لا تسمى جزاءًا ما لم تعط له وتصل إليه؟ وتعقبه الطبرسي بأن هذا لا يصح لأن الجزاء عبارة عن المستحق سواء فعل أم لم يفعل، ولهذا يقال: جزاء المحسن الإحسان وجزاء المسيء الإساءة، وإن لم يتعين المحسن والمسيء حتى يقال: فعل ذلك معهما أو لم يفعل، ويقال لمن قتل غيره: جزاء هذا أن يقتل، وهو كلام صادق وإن لم يفعل القتل وإنما لا يقال للدراهم: إنها جزاء الأجير لأن الأجير إنما يستحق الأجرة في الذمة لا في الدراهم المعينة، فللمستأجر أن يعطيه منها ومن غيرها.واعترض بأنا سلمنا أنه لا يلزم في الجزاء أن يفعل إلا أن كثيرًا من الآيات كقوله تعالى: {مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] يدل على أنه تعالى يوصل الجزاء إلى المستحقين ألبتة، وفي الآية ما يشير إليه؛ ولا يخفى ما فيه لأن الآيات التي فيها أنه تعالى يوصل الجزاء إلى مستحقه كلها في حكم آيات الوعيد والعفو فيه جائز، فلا معنى للقول بالبت، ومن هنا قيل: إن الآية لا تصلح دليلًا للمعتزلة مع قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48].وقد أخرج البيهقي عن قريش بن أنس قال: كنت عند عمرو بن عبيد في بيته فأنشأ يقول: يؤتى بي يوم القيامة فأقام بين يدي الله تعالى فيقول لي: لم قلت: إن القاتل في النار؟ فأقول أنت قلته ثم تلا هذه الآية {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا} إلخ فقلت له: وما في البيت أصغر مني أرأيت إن قال لك فإني قد قلت: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48] فمن أين علمت أني لا أشاء أن أغفر لهذا؟ قال: فما استطاع أن يرد عليَّ شيئًا. ويؤيد هذا ما أخرجه ابن المنذر عن إسماعيل بن ثوبان قال: جالست الناس قبل الداء الأعظم في المسجد الأكبر فسمعتهم يقولون لما نزلت {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا} الآية: قال المهاجرون والأنصار وجبت لمن فعل هذا النار حتى نزلت {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} إلخ، فقال المهاجرون والأنصار يصنع الله تعالى ما شاء. وبآية المغفرة ردّ ابن سيرين على من تمسك بآية الخلود وغضب عليه وأخرجه من عنده وكون آية الخلود بعد تلك الآية نزولًا بستة أشهر، أو بأربعة أشهر كما روي عن زيد بن ثابت لا يفيد شيئًا، ودعوى النسخ في مثل ذلك مما لا يكاد يصح كما لا يخفى، وأجاب بعض الناس بأن حكم الآية إنما هو للقاتل المستحل وكفره مما لا شك فيه فليس ذلك محلًا للنزاع، ويدل عليه أنها نزلت في الكناني حسا مرت حكايته، وقد روى عن عكرمة وابن جريج وجماعة أنهم فسروا {مُّتَعَمّدًا} ستحيلًا؛ واعترض بأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وبأن تفسير المتعمد بالمستحل مما لا يكاد يقبل إذ ليس هو معناه لغة ولا شرعًا فإن التزم المجاز فلا دليل عليه وسبب النزول لا يصلح أن يكون دليلًا لما علمت الآن على أنه يفوت التقابل بين هذا القتل المذكور في هذه الآية والقتل المذكور في الآية السابقة وهو الخطأ الصرف، وقيل: إن الاستحلال يفهم من تعليق القتل بالمؤمن لأنه مشتق؛ وتعليق الحكم بالمشتق يفيد علية مبدأ الاشتقاق، فكأنه قيل: ومن يقتل مؤمنًا لأجل إيمانه ولا شك أن من يقتله لذلك لا يكون إلا مستحلًا فلا يكون إلا كافرًا فيخرج هذا القاتل عن محل النزاع وإن لم يعتبر سبب النزول، واعترض بأن المؤمن وإن كان مشتقًا في الأصل إلا أنه عومل معاملة الجوامد، ألا ترى أن قولك كلمت مؤمنًا مثلًا لا يفهم منه أنك كلمته لأجل إيمانه؟ ولو أفاد تعليق الحكم بالمؤمن العلية لكان ضرب المؤمن وترك السلام عليه والقيام له كقتله كفرًا ولا قائل به، واعتبار الاشتقاق تارة وعدم اعتباره أخرى خارج عن حيز الاعتبار فليفهم، ثم إنه سبحانه ذكر هنا حكم القتل العمد الأخروي، ولم يذكر حكمه الدنيوي اكتفاءًا بما تقدم في آية البقرة (178).
|